بعد تسريبات خفض الإنفاق.. إصلاح الضمان الاجتماعي في ألمانيا بين التقشف وحماية حقوق الفقراء
بعد تسريبات خفض الإنفاق.. إصلاح الضمان الاجتماعي في ألمانيا بين التقشف وحماية حقوق الفقراء
دخل النقاش السياسي في ألمانيا مرحلة حاسمة بعد طرح مقترحات لإعادة تصميم نظام الضمان الاجتماعي واستبدال برنامج "دخل المواطن" ببرنامج جديد يتعارض مع الإطار التقليدي للدولة الاجتماعية.
وفق تقرير نشرته "هيومن رايتس ووتش" الخميس، تكشف التسريبات عن نية خفض الإنفاق بنحو خمسة مليارات يورو سنوياً وتشدّد ممارسات التأديب على المستفيدين، بينما تتمحور الجدالات الحزبية حول تكلفة النظام واستدامته، وأمام هذه المطالب يثار سؤال مركزي: كيف ستنعكس هذه الإجراءات على الأسر ذات الدخل المنخفض وعلى معدلات الفقر والأمن الاقتصادي والاجتماعي في بلد يلتزم دستورياً بمبدأ الدولة الاجتماعية؟
ضبط الإنفاق
يتقاسم التحالف الحاكم في ألمانيا المشهد بين حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي والحزب الديمقراطي الاجتماعي، ويدور الخلاف حول نموذج بديل لبرنامج دخل المواطن يهدف، بحسب بعض ممثلي الحزب المسيحي، إلى ضبط الإنفاق و"تحفيز العودة إلى سوق العمل"، ومن جهتها تصف قيادات الحزب الديمقراطي الاجتماعي الادعاءات بعدم توفر الموارد بأنها مبرر غير كافٍ للتقشف، وتقترح بدائل تمويلية مثل زيادة مساهمات أصحاب الدخول المرتفعة، لكن النقاش القانوني لا يقتصر على الحسابات المالية، إذ يتداخل مع التزامات ألمانيا الدستورية والدولية في ضمان مستوى معيشي لائق لمواطنيها.
تشمل التسريبات المقترحة تقليصات يمكن أن تبلغ نحو خمسة مليارات يورو سنوياً، وتغييرات في آليات دعم الإسكان وإجراءات صارمة ضد ما وصفتها الحكومة "بالحالات غير الملتزمة بشروط البحث عن عمل" والتي سجّلتها الحكومة بعدد يقدر بنحو 23 ألف شخص من بين أربعة ملايين مستفيد، أي أقل من 0.6% من إجمالي المستفيدين، والتركيز على هذا العدد الصغير قد يخفي تأثيرات أوسع، إذ إن خفض الدعم في قطاعات الإسكان والرعاية الاجتماعية يؤدي إلى تكاليف غير مباشرة ترتد على ميزان الأسر ومن ثم على اقتصاد الدولة من حيث زيادة الاعتماد على خدمات الطوارئ ومآوي المشردين والدعم الغذائي الطارئ.
تداعيات على الأسر منخفضة الدخل
تشير استقصاءات منظّمات المجتمع المدني إلى أن الخوف من تفاقم الأوضاع قد تحول إلى واقع، وكشف استطلاع فرع منظمة "سيف ذا تشيلدرن" شمولياً أن ربع الأسر التي أجريت عليها الدراسة يقلقون من عدم قدرتهم على تغطية تكاليف التدفئة والغذاء والإسكان خلال الأشهر الاثني عشر المقبلة، وأن نسبة القلق تصل إلى 57% بين الأسر ذات الدخل الشهري أقل من ثلاثة آلاف يورو، ويشعر ثلاثة أرباع المشاركين بأن سياسات مكافحة فقر الأطفال الحالية غير كافية، ومع انخفاض مستوى الدعم سيواجه كثير من الأسر الخيار القاسٍ بين الدفء والطعام، وهو مؤشر مباشر إلى اتساع الفقر العملي رغم استمرار مؤشرات البطالة المنخفضة نسبياً.
أثر على سوق العمل
أدى توسع العمل الجزئي وأشكال التشغيل الهشة إلى بروز مجموعة واسعة من العاملين ذوي الأجور المنخفضة، وتشغل النساء نصيباً غير متناسب من هذه الوظائف، وأي تحول إلى نظام ضمان اجتماعي أكثر تشدداً سيدفع بعض الفئات إلى قبول وظائف أقل أماناً وغالباً بأجور منخفضة لتفادي فقدان المساعدات، مما يرسخ اقتصاداً يعتمد على أيدي عاملة رخيصة ويؤثر سلباً على مستقبل المعاشات التقاعدية ويزيد الفجوة بين الجنسين في الدخل التقاعدي.
تفاقم فقر كبار السن والطبقات الهشة
أظهرت الإحصاءات الرسمية ارتفاع نسبة المعرضين لخطر الفقر بين من تزيد أعمارهم على 65 عاماً من نحو 11% في 2005 إلى أكثر من 20% في 2023، شهادات من مراكز توزيع الغذاء في ولايات مثل شمال الراين-وستفاليا تظهر أن بعض كبار السن يعيشون أوضاعاً تقشفية قاسية تعتمد على الحد الأدنى من المعيشة، أي تقليص في أنظمة الضمان يعيد إنتاج فقر الشيخوخة ويعقّد تكلفة الدعم الصحي والاجتماعي على المدى المتوسط والطويل.
الأبعاد القانونية والالتزامات الدولية والدستورية
ينص الدستور الألماني على مبدأ الدولة الاجتماعية، وقد تطوّر الفقه الدستوري لتأكيد مبدأ الحد الأدنى الكافي للعيش كمطلب دستوري من الدولة، وعلى الصعيد الدولي تلتزم ألمانيا باتفاقيات مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تكفل الحق في الضمان الاجتماعي ومستوى معيشي لائق، وأي تعديل تشريعي ينبغي أن يتجاوز منطق الكفاءة المالية إلى تقييم حقوقي يقيس مدى كفاية المستويات الجديدة للدعم بالنسبة لمعايير حقوق الإنسان وتبعاتها على الفئات الأضعف.
ردود فعل المنظمات الحقوقية والمدافعين الاجتماعيين
أعربت منظمات مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمات محلية عن قلق بالغ إزاء أي تقليصات، معتبرة أن سياسات التقشف تؤثر مباشرةً على حق الأفراد في مستوى معيشي لائق وتفاقم فجوات الفقر، كما رفض ناشطو حقوق الطفل خططاً تؤثر على دعم الأسرة والطفل، وحذّروا من أن خفض دعم الإسكان سيؤدي إلى تزايد التشرد ومضاعفة أعباء البلديات، كما دعت نقابات العمال والحركات الاجتماعية إلى بدائل تمويلية تراعي التضامن الاجتماعي مثل فرض ضرائب تصاعدية أو زيادة مساهمات ذوي الدخول المرتفعة.
خيارات بديلة وأدوات سياسية متاحة
يقترح خبراء السياسات مجموعة من البدائل التي توازن بين الاستدامة المالية والاحتياجات الإنسانية، وتشمل هذه البدائل إصلاحات ضريبية تصاعدية لتمويل الضمان الاجتماعي، وتحسين آليات مراقبة الفساد والهدر في الإنفاق الاجتماعي، وتبني برامج تشغيلية مدعومة تستهدف التعلم وإعادة التأهيل المهني مع ضمان سبل كريمة للدعم خلال التدريب، وتبسيط إجراءات الوصول إلى الإعانات لتقليل الإجراءات البيروقراطية التي تثني المستحقين عن الاستفادة، كما ينبغي اعتماد تقييمات أثر حقوقية قبل تمرير أي تعديلات تشريعية.
يقف الإصلاح المقترح لنظام الضمان الاجتماعي في مفترق طريق سياسي واجتماعي وقانوني، فاختيار سياسات تقلّص الدعم يضع الأسر الضعيفة في وضع دفاعي ويخاطر بتفجير مشكلات الفقر على نطاق أوسع، بينما يفرض احترام مبادئ الدولة الاجتماعية معالجات تمويلية عادلة ومستدامة، وأمام صانعي القرار مسؤولية تاريخية تتمثل في ضمان ألّا تصبح كفاءة الحسابات العامة على حساب كرامة المواطنين وحقوقهم الأساسية.